فصل: المهيع الثالث في المكاتبات إلى من بجزيرة العرب مما هو خارجٌ عن مضافات الديار المصرية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: صبح الأعشى في كتابة الإنشا (نسخة منقحة)



.المهيع الثالث في المكاتبات إلى من بجزيرة العرب مما هو خارجٌ عن مضافات الديار المصرية:

وفيه جملتان:
الجملة الأولى في المكاتبات إلى ملوك اليمن:
وهم فرقتان:
الفرقة الأولى: أئمة الزيدية:
قال المقر الشهابي بن فضل الله في التعريف: وهو من بقايا الحسنيين القائيمن بآمل الشط من بلاد طبرستان، وقد كان سلفهم جاذب الدولة العباسية حتى كاد يطيح رداءها، ويشمت بها أعداءها. وهذه البقية الآن بصنعاء وبلاد حضرموت وما والاها من بلاد اليمن. قال: والإمامة الآن فيهم في بني المطهر، وتقدم في المقالة الثانية في الكلام على المسالك والممالك أن أول من قام من هذه الأئمة باليمن الإمام يحيى الهادي بن الحسين الزاهد، بن أبي محمد القاسم الرسي، بن إبراهيم طباطبا، بن إسماعيل الديباج، بن إبراهيم الغمر، بن الحسين المثنى، بن الحسن السبط، ابن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، في سنة ثمان وثمانين ومائتين في خلافة المعتضد؛ وأنه كان فقيهاً عالماً مجتهداً في الأحكام، حتى قال فيه ابن حزم: إنه لم يبعد عن الجماعة في الفقه كل البعد. ثم ولي بعده ابنه محمد المرتضى وتمت له البيعة فاضطرب الناس عليه واضطر إلى تجريد السيف فجرده ومات سنة ثلاث وعشرين وثلثمائة لثنتين وعشرين سنة من ولايته وولي بعده أخوه أحمد الناصر ثم أخوه القاسم المختار ثم الحسين المنتجب. واطرد أمرهم بصنعاء إلى أن غلب عليهم السليمانيون أمراء مكة عند خروجهم منها، فاستقرت بأيديهم إلى أن ملك اليمن من جهة الساحل أحمد الموطيء بن الحسين المنتجب المقدم ذكره، وذلك في أيام سيف الإسلام ابن أيوب سنة خمس وأربعين وستمائة. وبقي أمر الزبدية هناك في عقبه.
وقد ذكر المقر الشهابي بن فضل الله أن الإمامة في زمانه في الدولة الناصرية ابن قلاوون كانت في حمزة وذكر في مسالك الأبصار أن يحيى بن حمزة ولي بعد أبيه، وكان في زمن المؤيد داود بن يوسف صاحب اليمن. وذكر قاضي القضاة ابن خلدون أن الإمام قبل الثمانين والسبعمائة كان علي بن محمد من أعقابهم، وتوفي قبل الثمانين. وولي ابنه صلاح وتابعه الزيدية، وكان بعضهم ينكر إمامته لعدم استكمال الشروط فيه فيقول: أنا لكم ما شئتم إمام أو سلطان. ثم مات سنة ثلاث وتسعين وسبعمائة، وقام بعده ابنه نجاح فامتنع الزيدية من بيعته فقال: إن محتسب لله تعالى. قال في التعريف: وأمراء مكة تسر طاعته، ولا تفارق جماعته. قال: ويكون بين هذا الإمام وبين الملك الرسولي باليمن مهادنات، ومفاسخات تارة وتارةً. قال: وهذا الإمام وكل من كان قبله على طريقة ما غيروها. وهي إمارة أعرابية لا كبر في صدورها، ولا شمم في عرانينها؛ وهم على مسكة من التقوى، وترد بشعار الزهد؛ يجلس في ندى قومه كواحدٍ منهم، ويتحدث فيهم ويحكم بينهم، سواءٌ عند المشروف والشريف، والقوي والضعيف؛ وربما اشترى سلعته بيده، ومشى في أسواق بلده، لا يغلظ الحجاب، ولا يكل الأمور إلى الوزراء والحجاب، يأخذ من بيت المال قدر بلغته من غير توسع، ولا تكثرٍ غير مشبع؛ هكذا هو وكل من سلف قبله مع عدل شامل، وفضل كامل. قال: في مسالك الأبصار: ولشيعة هذا الإمام فيه حسن الاعتقاد، حتى إنهم يستشفون بدعائه، ويمرون يده على مرضاهم، ويستسقون به المطر إذا أجدبوا، ويبالغون في ذلك كل المبالغة. ثم قال: ولا يكبر لإمام هذه سيرته- في التواضع لله، وحسن المعاملة لخلقه، وهو من ذلك الأصل الطاهر والعنصر الطيب- أن يجاب دعاؤه ويتقبل منه. قال: وزي هذا الإمام وأتباعه زي العرب في لباسهم والعمامة والحنك، وينادى عندهم بالأذان حي على خير العمل.
ورسم المكاتبة إليه على ما ذكره في التعريف: أدام الله تعالى أو ضاعف الله تعالى نعمة، أو جلال الجانب الكريم، العالي، السيدي، الإمامي، الشريفي، النسيبي، الحسيبي، العلامي، سليل الأطهار، جلال الإسلام، شرف الأنام، بقية البيت النبوي، فخر النسب العلوي، مؤيد أمور الدين، خليفة الأئمة، رأس العلياء، صالح الأولياء، علم الهداة، زعيم المؤمنين، ذخر المسلمين، منجد الملوك والسلاطين. ولا زال زمانه مربعاً، وغيله مسبعاً، وقراه مشبعاً، وكرمه لفيض نداه منبعاً، وهداه حيث أم بالصفوف متبعاً، وملكه المجتمع باليمن لو أدركه سيف بن ذي يزن لم يكن إلا لديه منتضى وتبع لم يكن له إلا تبعاً. ولا فتئت معاقد شرفه بالجوزاء، وعقائد حبه تعد لحسن الجزاء، ومعاهد وطنه آهلةً بكثرة الأعزاء، ومياسم أهل ولائه تعز إليه بالاعتزاء، ومباسم ثغور أودائه ضاحكة السيوف في وجوه الأرزاء؛ هذه النجوى إلى روضه الممرع وإلا فما تزم الركائب، وإلى حوضه المترع وإلا فما الحاجة إلى السحائب؛ وإلى حماه المخصب وإلا ففيم يسري الرائد، وإلى مرماه المطنب فوق السماء وإلا إلى أين يريد الصاعد؛ تسري ولها من هادي وجهه دليل، وفي نادي كرمه مقيل، وإلى بادي حرمه وما فيه للعاكف، وإلى عالي ضرمه ما لا ينكره العارف، وفي آثار قدمه ما يحكم به كل عائف؛ وفي بدار خدمه ما يذر عداه كرمادٍ اشتدت به الريح في يومٍ عاصف. مبدية وأول ما تبدأ بسلام يقدمه على قول كيت وكيت، وثناءٍ ولا مثل قوله: إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت.
صدر آخر- ولا عطل محراب هو إمامه، ولا بطل عمل هو تمامه، ولا جف ثرى نبات هو غمامه، ولا خف وقار امرئ بيده املصرفة زمامه، ولا ارتد مضرب سيف رؤوس أعاديه كمامه؛ ولا ارتأى في حصول الخيرة له من كان إلى كنفه انضمامه. وأطال الله باع عليائه، وأطاب بأنبائه سماع أوليائه، وأدام إجماع السرور عليه، ومصافاته لأصفيائه وتراميه إليه. صدرت بها الركائب إليه مخفة، وسرت بها النجائب لتقف عليه والقلوب بها محفة؛ وأهوت لديه يشمخ بها لوصولها إليه الكبر، وطوت إليه البيد طي الشقة تقيسها المطايا بالأذرع والثريا بالشير؛ تأتي بالعجب إذ تجلب إليه المسك الأفر، وتجلو له الصباح وما لاح والليل وما أسفر؛ وتحل في مقر إمامته، وتحلي العاطل بما نثره من الطل صوب غمامته؛ موصلة لعلمه ما لا يقطع، ومضوعة عنده من عنبر الشحر ما يستبضع، ومعلمة له كيت وكيت.
قلت: هذا ما أصله في التعريف وحاصله أنه يأتي بالصدر المقدم ذكره إلى قوله: منجد الملوك والسلاطين، ثم يأتي بالدعاء المناسب؛ ثم يقول: هذه النجوى إلى آخره مبدية لعلمه أو معلمة أو صدرت بها الركائب ونحو ذلك.
ثم لم يتعرض في التعريف لقطع الورق الذي يكتب إليه فيه، ولا للعلامة له، ولا لعنوان كتابه، ولا لتعريفه، ونبه على ذلك في التثقيف: وأنه أهمل ذلك ثم لم ينبه هو عليه. وقد رأيت في دستور منسوب للمقر العلائي بن فضل الله بيان ما أهملاه من ذلك فقال: والخطاب له بمولانا الإمام، والطلب منه والمسؤول وختم الكتاب بالإنهاء، والعنوان بالألقاب والدعاء المقدم ذكره، والعلامة الخادم.
وقد ذكر في التعريف: أنه وصل إلى الديار المصرية في الأيام الناصرية محمد بن قلاوون سقى الله عهده رسول من هذا الإمام ابن مطهر إمام الزيدية من صنعاء، بكتاب منه يقتضي الاستدعاء. أطال فيه الشكوى من صاحب اليمن، وعدد قبائحه، ونشر على عيون الناس فضائحه، واستنصر بمدد يأتي تحت الأعلام المنصورة لإجلائه عن دياره، وإجرائه مجرى الذين ظلموا في تعجيل دماره؛ وقال: إنه إذا حضرت الجيوش المؤيدة قام معها، وقاد إليها الأشراف والعرب أجمعها؛ ثم إذا استنفذ منه ما بيده أنعم عليه ببعضه، وأعطي منه ما هو إلى جانب أرضه. ثم قال: فكتبت إليه مؤذناً بالإجابة، مؤدياً إليه ما يقتضي إعجابه؛ وضمن الجواب أنه لا رغبة لنا في السلب، وأن النصرة تكون لله خالصة وله كل البلاد لا قدر ما طلب.
وهذه نسخته:
ضاعف الله تعالى جلال الجانب- بالألقاب والنعوت- وأعز جانبه عزاً تعقد فواضله بنواصي الخيل، وصياصي المعاقل التي لم يطلع على مثلها سهيل؛ وأقاصي الشرف الذي لطع منه في الطوق وتمسك سواه بالذيل؛ وقدمه للمتقين إماماً، وجعله للمستقين غماماً، وشرفه على المرتقين في علا النسب العلوي ونوره وصوره تماماً، ومن على اليمن بيمنه، وأعلم بصنعاء حسن صنيعه وبحضرموت حضور موت أعدائه، وبعدن أنها مقدمة لجنات عدنه؛ ولا زالت الآفاق تؤمل من فيضه صحاباً دانياً، وتتهلل إذا شامت له برقاً يمانياً، وتتنقل في رتب محامده ولا تبلغ من المجد ما كان بانياً.
هذه النجوى وكفى بها فيما يقدم بين يديها، ويقوم ولا يقوم من كل غالي الثمن ما عليها؛ تطوي المراحل، وتجوب البر والبلد الماحل، وتثب إليه البحار وتقذف منها العنبر إلى الساحل؛ وترسي به سفنها، وتحط إليه بل تخط لديه مدنها؛ وتؤذن علمه- سره الله- بما لم يحل إليه من نظر، ولم يخل منه من سبب ألف به النوم أو نفر، ورود وارد رسوله فقال: يا بشراي ولم يقل هذا غلام، ووصوله بالسلامة والسلام؛ وما تضمنه ما استصحب منه من صحيفة كلها كرم، وأخبار صحيحة كلها مما لو قذف به الماء لاضطرم، ذكر فيها أمر المتغلب العادي، والصاحب الذي يفعل فعل الأعادي، والجار الذي جار والظالم البادي، وما مد الأيدي إليه من النهاب وما اختطف به القلوب من الإرهاب؛ وتحدث عن أخباره وعندنا علمه، وأخبر عن أفعاله مما له أجر الصبر عليه وعليه ظلمه، وقص رسوله القصص، وزاد الشجى وضيق مجال الغصص، وأطار من وكر هذا العدوان طائراً كأنما كان في صدره، وحرك منه لأمر كان يتجرع له كأس صبره؛ وقد أسمع الداعي، وأسرع الساعي؛ وبلغ الأمانة حاملها، وأوصل الكلمة قائلها؛ ومرحباً مرحباً بداعي القيام من قبله؛ وأهلاً أهلاً بما بلغ على ألسنه رسله؛ وهلم هلم إلى قلع هذه الشجرة التي لم ينجب ظن غارسها، وقطع هذه الصخرة التي لم تنصب إلا مزلقة لدائسها؛ والتعاضد التعاضد لما هتف به هاتفه الصارخ، وسمعه حتى الرمح الأصم والسيف المتصاوخ، فليأخذ لهذا الأمر الأهبة، وليشد عليه فقد آنت الوثبة؛ فقد سطرت وقد نهض إلى الخيل ملجمها، وبادر وضع السهام في الكنائن مزحمها؛ وكأنه بأول الأعنة، وآذان الجياد تفوق بين شطري وجهها الأسنة؛ وكأنه برسوله القائد وفي أعقابه الجيش المطل، والألوية وكل بطل باسل يبتدر الوغى ولا يستذل؛ ولا أرب لنا في استزادة بلاد وسع الله لنا نطاقها، وكثر بنا مواد أموالها وقدر على أيدينا إنفاقها؛ وإنما القصد كله والأرب جميعه كشف تلك الكرب، وتدارك ذلك الذماء الذي أوشك أو كرب، وإن قدر فتوح، وتيسر ما طرف سوانا إليه طموح، كان هو أحق بسبقه: لأنه جار الدار، والأول الذي كان له البدار؛ ويقل له لعظيم شرفه ما نسمح به وإن جل، وما نهبه منه وإن عظم- شأن كل تبع وهو ببعضه ما استقل؛ وكأنه والخيل قد وافته تجد في الإحضار، وتسرع إليه وتكفيه مؤونة الانتظار؛ إن شاء الله تعالى.
الفرقة الثانية: أولاد رسول:
وهم المعروفون بملوك اليمن عند الإطلاق، ومقر مملكتهم حصن تعز. ورسول هذا الذي كان ينسب إليه ملوك هذا النسب من اليمن هو رسول أمير اخور الملك الكامل محمد بن العادل بن أبي بكر بن أيوب. قال في التعريف: ولما بعث الملك الكامل ولده الملك المسعود أطسز، وهو الذي تسميه العامة أقسيس، بعث معه رسولاً أميراخور في جملة من بعثه معه. قال: ثم تنقلت الأحوال حتى استقل رسول بملك اليمن، وصار الملك في عقبه إلى الآن. والذي ذكره المؤيد صاحب حماة، وقاضي القضاء ولي الدين بن خلدون في تاريخهما وهو الصواب أن أول من ملك اليمن علي بن رسول، ثم ابنه المنصور عمر، ثم ابنه المظفر يوسف، ثم ابنه الأشرف عمر، ثم أخوه المؤيد هزبر الدين داود، ثم ابنه المجاهد سيف الدين علي، وهو الذي قال المقر الشهابي بن فضل الله في التعريف: أنه كان في زمنه، ثم المنصور أيوب، ثم المجاهد علي المقدم ذكره ثانياً، ثم ابنه الأفضل سيف الدين عباس. وهو الذي قال في التثقيف: إنه كان في زمنه في الدولة الأشرفية شعبان بن حسين ثم ابنه المنصور محمد، ثم أخوه الأشرف إسماعيل، وهو الذي كان في الدولة الظاهرية برقوق. ثم ابنه الملك الناصر أحمد وهو القائم بها الآن.
واعلم أن المكاتبات بين صاحب مصر وصاحب اليمن من حين استقرت مملكة اليمن مع بني أيوب ملوك مصر وصارت المملكتان كالمملكة الواحدة، ثم تواصلت المكاتبات بين ملوكهما وتأكدت المودة إلى زماننا هذا، خلا ما وقع ي خلال ذلك من حصول تباين وقع بين أهل المملكتين في بعض الأزمان، وهو على ضربين:
الضرب الأول: ما كان الأمر عليه في الدولة الأيوبية:
وهو أن تفتتح المكاتبة بلفظ أصدرناها، وهذه نسخة كتاب عن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب صاحب مصر والشام، إلى أخيه سيف الإسلام صاحب اليمن يستقدمه إليه، معاوناً له على قتال الفرنج، ويخبره بما وقع له من الفتوحات في سنة أربع وثمانين وخمسمائة، وهي: أصدرنا هذه المكاتبة إلى المجلس، ومما تجدد بحضرتنا فتوح كوكب وهي كرسي الاستبارية ودار كفرهم، ومستقر صاحب أمرهم، وموضع سلاحهم وذخرهم؛ وكان بمجمع الطرق قاعداً، ولملتقى السبل راصداً؛ فتعلقت بفتحه بلاد الفتح واستوطنت؛ وسلكت الطرق فيها وأمنت، وعمرت بلادها وسكنت؛ ولم يبق في هذا الجانب إلا صور ولولا أن البحر ينجدها والمراكب تردها، لكان قيادها قد أمكن، وجماحها قد أذعن؛ وما هم بحمد الله في حصن يحميهم، بل في سجن يحويهم، بل هم أسارى إن كانوا طلقاء، وأموات وإن كانوا أحياء؛ قال الله عز وجل: فلا تعجل عليهم إنما نعد لهم عداً ولكل امرئ أجل لا بد أن يصدقه غائبه، وأمل لا بد أن يكذبه خائبه.
وكان نزولنا على كوكب بعد أن فتحنا صفد بلد الديوية ومعقلهم، ومشتغلهم وعملهم ومحلهم الأحصن ومنزلهم؛ وبعد أن فتنا الكرك وحصونه، والمجلس السيفي- أسماه الله- أعلم بما كا على الإسلام من مؤونته المثقلة، وقضيته المشكلة وعلته المعضلة؛ وأن الفرنج- لعنهم الله- كانوا يقعدون منه مقاعد للسمع، ويتبوأون منه مواضع للنفع؛ ويحولون بين قات؟ وراكبها، فيذللون الأرض بما كان منه ثقلاً على مناكبها. والآن ما أمن بلاد الهرمين، بأشد من بلاد الحرمين؛ فكلها كان مشتركاً في نصرة المسلمين بهذه القلعة التي كانت ترامي ولا ترام، وتسامي ولا تسام؛ وطالما استفرغنا عليها بيوت الأموال، وأنفقنا فيها أعمار الرجال، وقرعنا الحديد بالحديد إلى أن ضجت النصال من النصال؛ والله المشكور على ما انطوى من كلمة الكفر وانتشر من كلمة الإسلام. وإن بلاد الشام لا تسمع فيها لغواً ولا تأثيماً إلا قيلاً سلاماً سلاماً فادخلوها بسلام؛ وكان نزولنا على كوكب والشتاء في كوكبه، وقد طلع بيمن الأنواء في موكبه؛ والثلوج تنشر على البلاد ملاءها الفضيض، وتكسو الجبال عمائهما البيض؛ والأودية قد عجت بمائها، وفاضت عند امتلائها؛ وشمخت أنوفها سيولاً، فخرقت الأرض وبلغت الجبال طولاً؛ والأوحال قد اعتقلت الطرقات، ومشى المطلق فيها مشية الأسير في الحلقات؛ فتجشمنا العناء نحن ورجال العساكر، وكاثرنا العدو والزمان وقد يحرز الحظ المكاثر؛ وعلم الله النية فأنجدنا بفضلها، وضمير الأمانة فأعان على حملها؛ ونزلنا من رؤوس الجبال بمنازل كان الاستقرار عليها أصعب من نقلها، والوقوف بساحتها أهون من نقلها {وأما بنعمة ربك فحدث}.
والحمد لله الذي ألهمنا بنعمته الحديث، ونصر بسيف الإسلام الذي هو سيفه وسيف الإسلام الذي هو أخونا الطيب على الخبيث؛ فمدح السيف ينقسم على حديه، ومدح الكريم يتعدى إلى يديه؛ والآن فالمجلس- أسماه الله- يعلم أن الفرنج لا يسلون عما فتحنا، ولا يصبرون على جرحنا؛ فإنهم- خذلهم الله- أمم لا تحصى، وجيوش لا تستقصى؛ ووراءهم من ملوك البحر من يأخذ كل سفينة غصباً، ويطمع في كل مدينة كسباً؛ ويد الله فوق أيديهم، والله محيط بأقربيهم وأبعديهم؛ وسيجعل الله بعد عسر يسراً. لا تدريب لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً.
وما هم إلا كلاب قد تعاوت، وشياطين قد تغاوت. وإن لم يقذفوا من كل جانب دحوراً، ويتبعوا بكل شهاب ثاقب مدحوراً؛ استأسدوا واستكلبوا، وتألبوا وجلبوا وأجلبوا، وحاربوا وخربوا؛ وكانوا لباطلهم الداحض، أنصر منا لحقنا الناهض؛ وفي ضلالهم الفاضح؛ أبصر منا لهدانا الواضح؛ ولله در جرير حيث يقول:
إن الكريمة ينصر الكرم ابنها ** وابن اللئيمة للئام نصور!

فالبدار إلى النجدة البدار! والمسارعة إلى الجنة فإنها لن تنال إلا بإيقاد نار الحرب على أهل النار، والهمة الهمة! فإن البحار لا تلقى إلا بالبحار، والملوك الكبار لا يقف في وجوهها إلى الملوك الكبار:
وما هي إلا نهضة تورث العلا ** ليومك ما حنت روازم نيب!

ونحن في هذه السنة- إن شاء الله تعالى- ننزل على أنطاكية، وينزل ولدنا الملك المظفر- أظفره الله- على طرابلس؛ ويستقر الركاب العادلي- أعلاه الله- بمصر فإنها مذكورة عند العدو- خذله الله- بأنها تطرق، وإن الطلب على الشام ومصر تفرق؛ ولا غنى عن أن يكون المجلس السيفي- أسماه الله- بحراً في بلاد الساحل يزخر سلاحاً، ويجرد سيفاً يكون على ما فتحناه قفلاً ولما لم يفتح بعد مفتاحاً؛ فإنه ليس لأحد ما للأخ من سمعة لها في كل مسمع سمعه، وفي كل روع روعه؛ وفي كل محضر محضر، وفي كل مسجد منبر، وفي كل مشهد مخبر؛ فما يدعى العظيم إلا للعظيم، ولا يرجى لموقف الصبر الكريم إلا الكريم؛ والأقدار ماضية، وبمشيئة الله جارية؛ فإن يشأ الله ينصر على العدو المضعف، بالعدد الأضعف؛ ويوصل إلى الجوهر الأعلى، بالعرض الأدنى؛ فإنا لا نرتاب بأن الله ما فتح علينا هذه الفتوح ليغلقها، ولا جمع علينا هذه الأمة ليفرقها؛ وأن العدو إن خرج من داره بطراً، ودخل إلى دارنا كان فيها جزراً؛ وما بقي إن شاء الله تعالى إلا أموال تساق إلى ناهبها، ورقاب تقاد إلى ضاربها، وأسلحة تحمل إلى كاسبها؛ وإنما نؤثر أن لا تنطوي صحائف الحمد خالية من اسمه، ومواقف الرشد خاوية من عزمه؛ ونؤثر أن يساهم آل أيوب في ميراثهم منه مواقع الصبر، ومطالع النصر؛ فوالله إنا على أن نعطيه عطايا الآخرة الفاخرة، أشد منا حرصاً على أن نعطيه عطايا الدنيا القاصرة، وإنا لا يسرنا أن ينقضي عمره في قتال غير الكافر، ونزال غير الكفء المناظر؛ ولا شك أن سيفه لو اتصل بلسان ناطق وفهم، لقال: ما دمت هناك فلست ثم؛ وما هو محمول على خطة يخافها، ولا متكلف قضية بحكمنا يعافها؛ والذي بيده لا نستكثره، بل نستقصره عن حقه ونستصغره؛ وما نأولناه لفتح أرضه السلاح، ولا أعرناه لملك مركزه النجاح؛ إلى على سخاء من النفس به وبأمثاله، على علم منا أنه لا يقعد عنا إذا قامت الحرب بنفسه وماله؛ فلا نكن به زناً أحسن منه فعلاً، ولا نرضى وقد جعلنا الله أهلاً أن لا نراه لنصرنا أهلاً؛ وليستشر أهل الرشاد فإنهم لا يألونه حقاً واستنهاضاً، وليعص أهل الغواية فإنهم إنما يتغالبون به لمصالحهم أغراضاً؛ ومن بيته يظعن وإلى بيته يقفل، وهو يجيبنا جواب مثله لمثلنا، وينوي في هذه الزيارة جمع شمل الإسلام قبل نية جمع شملنا، ولا تقعد به في الله نهضة قائم، ولا تخذله عزمة عازم؛ ولا يستفت فيها فوت طالب ولا تأخذه في الله لومة لائم؛ فإنما هي سفرة قاصدة، وزجرة واحدة؛ فإذا هو قد بيض الصحيفة والوجه والذكر والسمعة، ودان الله أحسن دين ولا حرج عليه إن فاء إلى أرضه بالرجعة؛ وليتدبر ما كتبناه، وليتفهم ما أردناه؛ وليقدم الاستخارة، فإنها سراج الاستنارة، وليغضب لله ولرسوله ولدينه ولأخيه فإنها مكان الاستغضاب والاستثارة. وليحضر حتى يشاهد أولاد أخيه يستشعرون لفرقته غماً، وقد عاشوا ما عاشوا لا يعرفون أنهم مع عمهم عماً؛ والله سبحانه يلهمه توفيقاً، ويسلك به إليه طريقاً؛ وينجدنا به سيفاً لرقبة الكفر ممزقاً ولدمه مريقاً، ويجعله في مضمار الطاعات سابقاً لا مسبوقاً. إن شاء الله تعالى.
الضرب الثاني من المكاتبات إلى صاحب اليمن ما الأمر عليه من ابتداء الدولة التركية وهلم جرا إلى زماننا:
وهو ثلاثة أساليب:
الأسلوب الأول: أن تفتتح المكاتبة بلفظ أدام الله تعالى نعمة أيام المقام العالي، وهذه نسخة كتاب كتب عن الملك الناصر محمد بن قلاوون، جواب كتاب ورد من صاحب اليمن في مقابلة البشرى بدخول العساكر المنصورة إلى بلاد الأرمن، وطلب سلامش نائب التتار بالروم الدخول في الطاعة وذكر أن نائباً كان لأبيه في قلعة طمع وعصى عليه فظفر به فبشر بذلك؛ ويحرضه على الجهاد وإنفاذ الأموال، ويهدده، ويوجه به قصاده إليه. من إنشاء الشيخ شهاب الدين محمود الحلبي رحمه الله، وهي:
أدام الله تعالى نعمة أيام المقام العالي! وأنهضه بفرض الجهاد الذي بمثله ينتهج، وأيقظه لمتعين الغز الذي ما له تدرك الرتب وترتفع الدرج؛ وأشهده في سبيل الله مواقف النصب التي إذا أودعنا نشر بشرها الطروس عبقت بما فيها من الأرج؛ وأراه مشاهد فتوحنا التي إذا حدثت الأحلام عن عجائبها حدثت عن البحر ولا حرج؛ وصان مجده عن إضاعة الوقت في غير حديث الجهاد الذي هو أولى ما بذلت له الذخائر وابتذلت فيه المهج.
صدرت هذه المكاتبة تخصه بتحية تتضوع نشرا، وتتحفه من متجددات الظفر بشرا، يملأ الوجود مسرة وبشرى، وتقص عليه من متجددات فتح يأتي على ما أتعبت فيه الأفكار قرائحها من مشتهى التهاني فلا يدع له ذكرا؛ وتتلو على من ظن بعد ما سمع من البلاغ بلاغ العدا أن إزالة وال عن مركزه فتح كبير: لقد جئت شيئاً نكرا. وتوضح لعلمه الكريم أن مكاتبته الكريمة وردت مقصورة على نبأ لا يعتد بذكره، محصورة على خبر لا ينبغي لمثل مجده أن يمره على فكره، مطلقة عنان القلم فيما كان ينبغي طي خبره وتعفي أثره، وإخفاء سببه وتركه نسياً منسياً فضلاً عن التبجح بذكره، والتهنئة به، إذ في ذلك مقابلة البحر بالثماد، والروح بالجماد، والشمس بالذبال، والهدى بالضلال؛ فلم يكمل له في ذلك المراد، وأتى بما قالت له التهاني: نحن في واد وأنت في واد؛ وقابلناها مع ذلك بالقبول الذي اجتلى غررها، وأحمدت لديه وردها وصدرها، فأحطنا علماً بما تضمنته من الأحوال التي أبداها، والمتجددات التي عظم موقع نشرها عنده فأهداها.
وأما ما ذكره من أمر القلعة التي كان النائب بها لوالده شخصاً اعتمد عليه، وولاه مستحفظاً ظنه مع تغاير الأحوال مؤتمناً على ما في يديه؛ وأن ذلك الشخص بعد انتقام والده رحمه الله طمع فيما استودع فجحد الوديعة والموادعة، ورام المنازعة والمقاطعة، وخالف وحالف، وقارب العصيان وقارف؛ وأنه في هذا الوقت قلع ذلك النائب، من تلك القلعة المغتصبة، وأراح من همه الناصب، وأفكاره ووصبه إلى غير ذلك مما أورده على وجه البشرى لهذا السبب الضعيف، وأبرزه في معرض التهنئة من هذا الأمر الطفيف؛ وأراد أن يتكثر فيه بما لا مدخل له في كثره وقله، فذكر بروزه بجمعه إلى شخص واحد في قبالة ما اتصل به من نبأ كل موطن برز فيه الإسلام كله إلى الشرك كله؛ وظاهر الأمر أن ذلك الشخص ما عصى بالمكان الذي كان فيه إلا لما رأى بالمملكة اليمنية من اضطراب الأحوال، وأسباب الاختلاف والاختلال، والوهن الذي حسن له الاحتراز والاختزال، والخلوة التي حملته على أن طلب الطعن وحده والنزال، وامتداد الأيدي العادية بكل جهة إلى ما يليها، وضياع رعايا كل ناحية بالاشتغال على افتقاد أحوال من يباشرها وانتقاد تصرف من يليها؛ فهو الذي أوجب طمعه، وقوى ضلعه، وحمله من مركب العناد، وأراه نظراءه بتلك الجهة ممن سلك الفساد. وهذا الأمر ما خفي علينا خبره، ولا توارى عنا ورده ولا صدره؛ فإن أخبار مملكة اليمن ما زالت متواصلة إلينا بما هي عليه من اضطراب واف، واختلاف غير خاف، وهيج لا يرجع الأمر فيه إلى كاف كاف؛ وما أخرنا لحق جيوشنا المنصورة، وعساكرنا التي ممالك العدا بمهابتها محصورة، عن الوصول إلى المملكة اليمنية لتقويم أودها، وتمكين شدها؛ وإقامة أمرالملك فيها، وحسم مادة الفساد عن نواحيها، وتطمين البلاد، وإنامة الرعايا من الأمن في أوطئ مهاد، والاحتراز على الخزائن والأموال، وصونها من الإنفاق في غير جند الله الذين منعوا دعوة الشرك أن تقام وكلمة الكفر أن تقال؛ إلا لأن عساكرنا كانت الآن في الممالك والأقاليم التي بيد الكفر: من التتار المخذولين، ومن يقول بقولهم من أعداء الدين، تقتل وتأسر، وتلقى الجيوش الكافرة فتكسب وتكسر، وتصحبهم حيث حلوا طلائع رعبها، وتصبحهم منها أين طلوا ريح عاد التي تدمر كل شيء بأمر ربها.
وما سطرنا هذه المكاتبة إلى وجيوشنا المنصورة قد وطئت عقر بلادهم فأذلتها وأذالتها، وغيرت أحوالها وحالتها؛ وقاسمتهم شر قسمة فلها منها الحصون والمصون، والجنات والوارفة الغصون، ولهم منها الخراب والتباب، والدارس الذي لا يحصل بكف دارس بيته إلا التراب؛ وها هي قادمة إلينا يقدمها النصر، ويتقدمها من أسر العدا وغنائمهم ما يربي عن الحصر؛ وما بينها وبين ركوب هذا البحر لملك تمهده، وعدل تجدده، وبغاة تكف غربها، وراة تؤمن بالمهابة سربها، وتصفي من أكدار الفتن شربها؛ وخزائن لها عن غير الإنفاق في سبيل الله تصونها إلا بمقدار ما تستقر بها المنازل استقرار السنة بالجفون لا النوم، وأضرمت نواحيها، واستاقت أهلها ومواشيها، وجعلت قصورها صعيداً، وزرعها حصيداً، وعقائلها إماء، ومعاقلها هباء؛ وابتذلت مصونها الذي جعله الله لها أثقالاً، واختارت من حصونها لملكنا ما كانت سيوفنا له مفاتح فلما فتح عدن له أقفالاً؛ واقتلعت من القلاع التي كانت بيد الكفر كل معقل أشب، وحصن شابت نواصي الليل وهو لم يشب؛ قد صفح بالصفاح، وشرف بأسنة الرماح، واستدار بقنة قلة ينهب الترقي إليها هوج الرياح؛ فطهرته من النجس، وعوضته بصوت الأذان عن صوت الجرس، وأخرست الناقوس بسورة الفتح الذي عوذته نوب الدهر بآيات الحرس؛ مع ما أضيف إلى تلك القلاع من بلاد وتلاد، وأغوار ونجاد؛ وجنات وعيون، وأموال ارتجع بها ما كان للإسلام في دذمة الكفر من بقايا الديون. وكل تلك الغنائم منحناها جيوشنا المنصورة وأبحناها، وقويناهم على أمثالها من الفتوح برفع العوائق التي أزلناها، بالقناطير المقنطرة من الذهب والفضة وأزحناها؛ وما وصل الآن قصاده إلى أبوابنا العالية إلا والبشائر تنطق بألسنة التهاني، وتخفق بمجددات هذه الفتوح في الأقاصي من ممالكنا والأداني؛ وقد شاهدوا ذلك وشهدوه، ورأوا ما رأى غيرهم من نوادر الفتوح التي أربت على ما ألفوه من قبل وعهدوه. هذا وما وضعت الحرب إلى الآن أوزارها، ولا خمدت نار الوغى التي أعدت جيوشنا المنصورة للأعداء أوارها؛ وما يمضي وقت إلا والبشائر متواردة علينا بفتح جديد، ونصر له في كل يوم مخلق تخلق وفي كل بر بريد. وقصارى أمر العدو الآن أنهم ليس لهم بلد، إلا وقد أخنى عليه الذي أخنى على لبد؛ ولا دار إلا وقد أضحت كدار مية التي أقوت وطال عليها سالف الأمد؛ ولا جيش إلا وقد فر وأين يفر وهو يطوي في قبضتنا المراحل؟، ولا طرائد بحر إلا وهي مطرودة في اللجج لتيقنهم أن العطب لا السلأمية في الساحل.
فمن أجل ذلك رأينا أن اشتغال جيش الإسلام بجانب الكفر هو المهم المقدم على ما سواه، والغرض الذي نيتنا فيه إنقاذ أهل الإسلام من كلمة الكفر وتحكمه ولكل امرئ ما نواه ورأينا أن أمر هذه الجهة ما يفوت بمشيئة الله وعونه وتمكينه، وإذا كان الله قد أقام بقدرته منا ملكاً لنصرة دينه إن اليمن وغيره في يمينه؛ وهي محسوبة من أعداء ممالكنا المحروسة، ومعدودة من أقسام بلادنا التي هي بوفود الفتوح مأنوسة؛ ولا بد من النظر في أمرها، وإعمال الفكر في إزاحة ضرها، وتجريد العساكر المنصورة إليها، وإقدام الجيوش التي عادتها الإقدام في الوغى عليها؛ ليكون العمل في أمرها بما يرضي الله ورسوله، ويبلغ من كان بتلك الجهات يروم الجهاد ولا يطيقه سوله؛ فإن المملكة المذكورة توالت عليها المدد، ومضى عليها الأبد؛ وهمة من فيها إلى الله مصروفة، وعلى اللذات موقوفة؛ وأحكام الجهاد عندهم مرفوضة حتى كأن الجهاد لم يبلغهم وغره حلمه، ولا أحاطت أفكارهم بشيء من علمه؛ بل كأنه على غيرهم وجب، وكأن ما أعد الله من الأجر عليه إنما أريد به الذين يكنزون الذهب؛ وتمادت الأيام وليس في نكاية أعداء الله منهم نصيب، وتفرقت الأموال وما لجند الله فيما احتووا عليه من ذلك سهم ولا نصيب؛ وأي عذر عند الله لمن جعله مؤتمناً على ماله فلم يكن له في سبيل الله إنفاق؟ وأي حجة لمن لم يقف موقف جهاد وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من مات ولم يغز ولم يحدث به نفسه مات على شعبة من نفاق».
و الآن فإن الله سبحانه وتعالى قد أقامنا لنصرة الإسلام ورفع كلمة الإيمان وتمهيد البلاد، وإجراء الأحوال في القريب مننها والبعيد على ما يرضي الله تعالى ويرضي رسوله عليه السلام من السداد؛ وأهم الأمور عندنا أمر الغزاة والمجاهدين الذين ما منهم إلا ممسك بعنان فرسه، مكتحل بسهاد حرسه؛ لا يأمن العدو مهاجمة خيله في سراه، ولا مفاجأة خياله في كراه، حصنه ظهر حصانه، وجوابه على لسان سنانه، كلما سمع هيعة أو وقعة طار على متن فرسه يلتمس الموت والقتل في مظانه؛ وهؤلاء هم جيوشنا الذين دوخوا البلاد، وأذلوا أهل العناد؛ وطهروا السواحل وأجروا في كل مواطن من أنهار الدماء ما يروي البلد الماحل، وهزموا جيوش التتار وهم في أعداد الكواكب، وحصدوهم بسيوفهم عرورة؟ وهم في نحو المائة ألف راكب؛ حتى إن ملوك التتار الآن ليتمنون إرضاءنا وإغضاءنا، ويستدعون ويدعون للآباد ولاءنا، ويطلبون المسالمة منا، ويودون نسمة قبول تصدر إليهم عنا؛ والطويل العمر منهم وممن والاهم هو الذي يهرب من بين يدي جيوشنا المنصورة ليسلم بنفسه، وإن أسلم ما يعز عليه من ماله وولده وعرسه. فمثل هؤلاء الذين يستحقون أموال الممالك الإسلامية ليستعينوا بها في جهازهم لجهادهم، وينفقوها في إعدادهم لأعدائهم؛ ويصرفوها في ذبهم عن دين ربهم.
وهذه المملكة اليمنية قد اجتمع فيها من الأموال ما يربي عن الحصر والحد، ويزيد على الإحصاء والعد؛ لا ينفق منها شيء في الجهاد، ولا يعد منها مصروف إلا بما لا تحمد عاقبته في المعاد؛ قد صد عنها جند الله الذين ينفقونها سراً وجهراً، ويستنزلون بها أرواح أعداء الله على حكم سيوفهم قسراً وقهراً؛ وأبيحت لمن تأبى الجهاد جانباً، ورضي باللهو صاحباً، واقتنى السلاح لغير يوم الباس، واعتنى بارتباط الجياد بطراً ورثاء الناس.
وكان كتابنا قد تقدم في أمر المجاهدين وما يحتاجونه من الإعانة بما يحمل إليهم من الأموال بالمملكة اليمنية: ليصرف ذلك في حقه، ويصل إلى مستحقه؛ ويكون قد أعد منها للإنفاق في سبيل الله جانب بحيث لا يضاع، ووصل إلى مجاهدي الأمة نصيب من مال الله الذي هو في يد من ولاه شيئاً من أمور عبداه على حكم الإيداع؛ ويدخل ذلك في زمرة الذين يكنزون الذهب والفضة لا ينفقونها؛ فحصلت المكابرة في الجواب عن ذلك، وأي عذر في المكابرة عن مثل هذا الأمر وشغل الوقت بذكره؟ ونحن عندنا في كل وقت من البشائر بمواهب الفتح، وغرائب المنح، ومتجددات الظفر والنصر، ومتحليات التأييد التي قسمت أعداء الله بين الحصد والحصر، ما يهب نشره هبوب الريح في البر والبحار، ويود الدهر لو رقمه بذهب الأصيل على صفحات النهار، وكل ذلك في أشد أعداء الله تعالى: من التتار، الذين عرف عددهم وجلدهم، والفرنج الذين طال وكثر في عوادة الإسلام أبدهم وممدهم، والأرمنن الذين هم أكثر الطائفتين في الظاهر وفاقا، وأشد الفئتين في الباطن نفراً ونفاقاً؛ وهم لهؤلاء وهؤلاء مادة تمير وتمير، وتغريهم وتغرهم فتصير بهم من نار الحرب المضرسة لسيوفنا إلى جهنم وبئس المصير؛ واي شيء من ذلك يذكر عند مواقف جيوشنا المنصورة، وظفر عساكرنا المؤيدة؟، لو كان حصل عنده الفكر الصائب ما وردت مكاتبته إلا وهي مقترنة بما يرضي الله ورسوله وأهل الإسلام: من إمداد الغزاة بالأموال، وإعانتهم على الكلف التي كلما أعد لها مال بدت حال يلائمها الإنفاق في سبيل الله ويسألونك عن الجبال؛ وها هي قادمة إلينا يقدمها النصر، ويتقدمها منن أسرى العدا وغنائمهم ما يربي عن الحصر؛ وما بينها وبين ركوب ثبج هذا البحر لملك تمهده، وعدل تجدده، وبغاة تكف غربها، ورعايا تؤمن بالمهابة سربها، وتصفي من أكدار الفتن شربها؛ وأموال تصونها، وخزائن ينزه عن غير الأنفاق في سبيل الله مضمونها، إلا بمقدار ما تستقر بها المنازل استقرار السنة بالجفون لا النوم، وتأخذ أهبة لذلك المهم في يوم أو بعض يوم.
اللهم إلا أن تلبى دعوى الجهاد من تلك الجهة بألسنة النفير، وتعبى صفوف الجلاد في الجواري التي تكاد بأجنحة القلوع تطير؛ أو تنوب عنها خزائن الأموال التي تنفق في سبيل الله تعالى، أو تقوم مقامها النفقات التي تصرف إلى جنود الله التي تنفر في سبيل الله تعالى خفافاً وثقالاً، ليكون قد استدر ببركة ذلك الطل أخلاف الوابل، وأنفق ما اختزنه في سبيل اله الذي مثل ما ينفق فيه كمثل حبة أنبتت سبع سنابل؛ وتستعد الجيوش المنصورة إلى طود يصون برأيه ملكه ويصول، ويستطيل على الوجود ولو أن البر سيوف والبحر نصول؛ والله تعالى يرشده إلى ما هو أقرب للتقوى، ويمسكه من طاعته بالسبيل الأقوم والسبب الأقوى؛ إن شاء الله تعالى.
الأسلوب الثاني: أن تفتتح المكاتبة بلفظ: أعز الله تعالى جناب المقام العالي إلى آخر الألقاب:
وهو المذكور في التعريف: أن تفتتح المكاتبة بلفظ: أعز الله تعالى جناب المقام العالي إلى آخر الألقاب، ثم الدعاء، مثل: ولا زال يحسن ولاية حسبه، وينهض بجناح نسبه، ويصون ملكه بعدله أكثر من قضبه، ويثبت في اليمن اليمن في حالة إقامته ومنقلبه.
أصدرناها إلى مقامه موشجة المعاطف بحليه، شاكرة علا عليه، ذاكرة من محامده ما يتكثر السحاب بوليه، مبدية لعلمه الكريم كيت وكيت.
وهذه أدعية وصدور تناسب كل سلطان بها: ولا زال به تعز وتفوز ببره زبيد، ويخرج من عدن عدن فضله المديد، وتمتلي بوفور البر والبحر: هذا تطير به المراكب وهذه الركائب كلاهما من مكان بعيد؛ ولا برحت به آهلة الأوطان، مشتقة صفات قطره اليمني من الأيمان يمان؛ محجوباً بالجلالة أو محجوباً لما ينسب إليه من أحد الأركان.
أصدرناها والسلام يباري ما تنبت أرضه من نباتها الطيب، ويجاري بالثناء ما ينهل في أكنافه الجنوبية منن سحابها الصيب؛ وتسري إليه بتحياتنا الشريفة على قادمة كل نسيم، وفي طي كل عام له وقوف على ربعه وتسليم؛ وتوضح لعلمه الكريم.
دعاء وصدر يختص بالمجاهد علي، وهو: ولا زال أفضل متوج في يمنه، وأعلى علي إذا قيس بابن ذي يزنه، وأشجع من حمى بعهوده ما لا تقدر السيوف على حمايته من وطنه؛ ولا انفك الملك المجاهد عن عرضه المصون، وسيف الدين الذي يقوم في المفروض من مراضي الله بالمسنون؛ وأبا الحسن لما يحسن في فطنته الحسنى أو فطرته من الظنون، والعلي قدراً إذا أخذت الملوك مراتبها وحدقت إليه العيون.
صدرت هذه المفاوضة إلى حضرته وسلامها يتفاوح لديها، ويصافح غمائه في يديها، وتجري سفائن إخلاصه حتى تقف عليها، وتسري بتحياتنا محلقة بالبشرى في صباح كل يوم يقرب من الوصول إليها، وتبدي لعلمه الكريم.
قلت: ولم أقف على صورة مكاتبة مفتتحة بلفظ: أعز الله تعالى جانب المقام كتب بها إلى بعض ملوك اليمن في زمن من الأزمان؛ فأوردها استشهاداً لهذا الأسلوب.
الأسلوب الثالث: أن تفتتح المكاتبة بلفظ: أعز الله تعالى نصرة المقام العالي:
وهذه نسخة كتاب كتب به إلى صاحب اليمن أيضاً، عن السلطان الملك المنصور قلاوون، مبشراً بفتوح صافيتا، من إنشاء القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر رحمه الله، وهو:
أعز الله تعالى نصرة المقام العالي، المولوي، السلطاني، الملكي، المظفري، الشمسي؛ وأشركه في كل بشرى تشد الرحال لاستماعها، وتحل الحبى لاستطلاعها؛ وتتهافت التواريخ والسير على استرفاعها، وتتنافس الأقلام والسيوف على الأفهام بأجناسها وأنواعها؛ ولا خلا موقف جهاد من اسمه، ولا مصرف أجر من قسمه، ولا غرض هناء من سهمه، ولا أفق ابتهاج من بزوغ شمسه وطلوع نجمه. سطر المملوك هذه البشرى والسيف والقلم يستمدان: هذا من دم وهذا من نقس، ويمضيان: هذا في أرس وهذا في طرس؛ ويتجاوبان: هذا بالصليل وهذا بالصرير، ويتناوبان: هذا يستميل وهذا يستمير؛ وكل منهما ينافس الآخر على المشافهة بخبر هذا الفتح الذي ما سمت إليه همم الملوك الأوائل، ولا وسمت به سيرهم التي بدت أجيادها من حلاه عواطل؛ ولا دار في خلد من مثله يتهيأ في المدد الطويلة، ولا تشكل في ذهن أنه سيدرك بحول ولا حيلة؛ وهو النصر المرتب على حركتنا التي طوى الله لركابنا فيها المراحل، وألقى بدرر عساكرنا في بحر الحديد المالح إلى الساحل؛ وهجومنا على البلاد الفرنجية: وهي طرابلس وصافيتا وأنطرسوس ومرقية والمرقب، كما يهجم الغيث؛ ومصادمتنا صدورها كما يصدم الليث، وسلوكنا منها حيث لم يبق حيث؛ وما جرى في هذه الوجهة منن إغارات أحسنت متقلب الأعنة؛ ومتعلق السيوف ومخترق الأسنة؛ وما تهيأ منها من فتوح صافيتا التي هي أم البلاد، ومنتجع الحاضر والباد؛ وكونها قدمت نفسها في جملة ما يقرى به الضيف، وقالت: هذا فتوح حضر على هذا الفتوح لهذا السيف؛ وتلطفت في مسح أطراف الأمان، وطلبت شكراً ومنا شكران؛ وأحضرت إلينا من أهلها الوقت وهدت السيوف في أعناقهم فتشبهت بها الأغلال، وأنفت أيمان أهل الإيمان من مصافتحتهم لأنهم أصحاب الشمال؛ فأطلقهم سيفنا وأمله يمتد إلى من هو أعز منهم مالاً، وأكثر احتفالاً، وأبز مآلاً، وأهز سيوفاً قصاراً ورماحاً طوالاً؛ واستطار منها شرار نار الحرب الموقدة إلى غيره من القلاع، واستطال إلى سواها منن الحصون منهم الباع؛ فلا حصن إلا وافترت ثنيته عن نصر مسهل، وفتح معجل ومؤجل.
فمن ذلك حصن الأكراد الذي تاه بعطفه على الممالك والحصون، وشمخ فأنفه عن أن تمتد إلى مثله يد الحرب الزبون؛ وغدا جاذباً بضبع الشام، وآخذاً بمخانق بلاد الإسلام؛ وشللاً في يد البلاد، وشجاً في صدر العباد؛ تنقض من عشه صقور الأعداء الكاسرة، وترتاع من سطوتها قلوب الجيوش الطائرة؛ وتربض بأرباضه آساد تحمي تلك الآجام، وتفوق من قسيه سهام تصمي مفوقات السهام؛ تعطيه الملوك الجزية عن يد وهم صاغرون، ويصطفي كرام أموالهم وهم صابرون لا مصابرون؛ كم شكت منه حماة تثني بنكرها قلة الإنصاف، وكم خافته معرة وما من معرة خاف؛ ما زالت أيدي الممالك تمتد إلى الله بالدعاء عليه تشكو من جور جواره تلك الحصون والصياصي، وتبكي بمدمع نهرها من تأثير آثاره مع عصيانها وناهيك بمدمع العايص؛ حتى نبه الله ألحاظ سيوف الإسلام من جفونها، ووفى النصرة ما وجب من ديونها؛ وذاك بأنا قصدنا فسيح ربعه، ونزلنا ونازلنا محمي صقعه، وختمنا بنصالنا على قلبه وسمعه؛ وله مدن حوله خمس هو كالراحة وهي كالأنامل، وتكاد بروجه ترى كالمطايا المقطرة وهي منها بمنزلة الزوامل؛ ما خيمنا به حتى استبحنا محمى تلك المدائن المكني عنها بالأرباض، وأسحنا بساحاتها بحراً من الحديد ما اندفع حتى فاض؛ وأخذنا الثقوب في أسوار لا تنقض ولا ينقض بنيانها المرصوص، ولا تقرأ المعأول ما لخواتم أبراجها من نقوش الفصوص؛ ونصبنا عليها عدة مجانيق حملت في شواهق الجبال، على رؤوس الأبطال؛ فتغيظت السمهرية أن الذي تقوم به هذه تلك به لا تقوم، وأن ما منها إلا له من الأيدي والرؤوس مقام معلوم؛ وصار يرمي بها كل كمي مختلس، وأروع منتهس، وكل ليث غاية يحميها وتحميه. فشكراً لأسود حتى غاباتها تفترس؛ إلى أن جثت أسوارها على الركب، وكانت سهام مجانيقها تميل من العجب فصارت تميد من العجب، وكانت تطلب فصارت تهرب من الطلب؛ واشتد الأمر على الكفار فقاتلوا قتالاً أقض مضاجع الأسلحة، وأطار حجارة مجانيقهم بغير أجنحة، وأشجى بشجو النصول المترنمة على غصون السهام المترنحة؛ هذا وأهل الإيمان يتلقون ذلك كله بصبر يستطعمون منه شهداً، وإقدام يتلقى صدى الحديد بأكباد ما زالت إلى موارده قصداً؛ يقتحمون نار الحرب التي كلما أوقدوها أطفأها الله وقال يا نار كوني برداً، والبلاد الفرنجية قد غضت منها الأبصار وخشعت القلوب، واعتقد كل منها في نفسه أنه بعد هذا الحصن المطلوب؛ فهذه تود لو أكنتها البحار تحت جناح أمواجها، وهذه لو أسبلت الرياح العواصف عليها ذيول عجاجها؛ وهذه لو اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار، وهذه لو خسف بها الثرى وعفت منها الآثار؛ وذلك لما بلغهم وشاهدوه من ويل حل بأهل هذا الحصن المنيع، ومن فتك أمحل ربعه المريع، وضيق مجاله الوسيع؛ وقراع أضجر الحديد من الحديد والأبطال لم تضجر، ونضال أشهر كل جفن حتى جفون السيوف لأنا عودناها مثل جفوننا أن تسهر؛ فكم شكت النقوب من مناكبهم زحاماً، والشرفات من ترقبهم التزاماً، والرقاب من سيوفهم اقتساماً؛ وكم حمدت التجارب من رأيهم شيخاً وحمد الإقدام من ثبوتهم غلاماً؛ قد دوخوا البلاد فلا موطن إلا لهم به معركة، وأرملوا الحلائل فلا مشرك إلا وقد أرمل من شركة، وأزعجوا الكفر فلا قلب إلا به منهم خوف ولا سمع إلا لهم به حركة، وملأوا الأرض كثرة وكيف لا يكثر الله جمعاً للإسلام جعل الله فيه بركة.
وكتابنا هذا والمولى بحمد الله أحق من هنئ بهذا الفتح الذي تثني على كتاب بشائره الحقائب، وتجري إلى سماع أخباره الركائب، وتتزاحم على المسير تحت البرد الواصلة به متون الصبا وظهور الجنائب؛ وإذا ذكرت ملاحمه، قال كل: هذا كتب أم كتيبة تلوح، وإذا شوهدت حمرة طرسه قيل: وهذا ما صبغته في اليد المعلمة عليه دم الكفر المسفوح، وينعم- أعز الله نصره- بالإعلان بهذا النبأ الحسن الذي تستروح إليه الأسماع، وتسر بالإفهام به أخوات هذا الحصن من مدنه ومن قلاعه العظيمة الامتناع؛ فإنه ما برح الأخ يفرح بأخيه، وإذا كان الهناء عظيماً اشترك كل شيء فيه، إن شاء الله تعالى.
وهذه نسخة كتاب آخر إلى صاحب اليمن من هذا الأسلوب: كتب به الفاضل محيي الدين بن عبد الظاهر أيضاً، عن الملك المنصور قلاوون، جواب تعزية أرسلها غليه في ولده الملك الصالح في ورق أزرق؛ وكانت العادة أن تكون في ورق أصفر. ونصها بعد البسملة.
أعز الله تعالى نصرة المقام إلى آخر الألقاب، وأحسن بتسليته الصبر على كل فادح، والأجر على كل مصاب قرح القرائح وجرح الجوانح؛ وأوفد من تعازيه كل مسكن طاحت به من تلقاء صنعاء اليمن الطوائح؛ وكتب له جزاء التصبر عن جار من دمع طافح، على جار لسويداء القلب صالح.
المملوك يخدم خدمة لا يذور المواصلة بها حادث، ولا يؤخرها عن وقتها أمر كارث، ولا ينقضها عن تحسينها وترتيبها بواعث الاختلاف ولا اختلاف البواعث؛ ويطلع العلم الكريم على ورود مثال كريم، لولا زرقة طرسه وزرقة لبسه لقال: وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم. تتضمن ما كان حدث من رز تلافى الله بتناسيه، وتوافى بعود الصبر فتولى التسليم تليين تقاسيه وتمرين قاسيه؛ فشكرنا الله تعالى على ما أعطى وحمدناه على ما أخذ، وما قلنا: هذا جزع قد انتبه إلا وقلنا هذا تثبت قد انتبذ، ولا توهمنا أن فلذة كبد قد اختفطت إلا وشاهدنا حولنا منن ذريتنا والحمد لله فلذ؛ وأحسنا الاحتساب، ودخلت الملائكة علينا من كل باب، ووفانا الله عز وجل أجر الصابرين بغير حساب؛ ولنا- والشكر لله- صبر جميل لا نأسف معه على فائت ولا نأسى على مفقود، وإذا علم الله سبحانه حسن الاستنابة إلى قضائه، والاستكانة إلى عطائه، عوض كل يوم ما يقول المبشر به: هذا مولى مولود. وليست الإبل بأغلظ أكباداً ممن له قلب لا يبالي بالصدمات كثرت أو قلت، ولا بالتباريح حقرت أو جلت، ولا بالأزمات إن هي توالت أو تولت، ولا بالجفون إن ألفت بما فيها من الدموع والهجوع وتخلت؛ ويخاف من الدهر من لا حلب أشطره، ويأسف على الفائت من لا بت بنبأ الخطوب الخطرة؛ على أن الفادح بموت الولد الملك الصالح- رضي الله عنه- وإن كان منكياً، والنافح بشجوه وإن كان مبكياً، والنائح بذلك الأسف وإن كان لنار الأسف مذكياً، فإن وراء ذلك من تثبيت الله عز وجل ما ينسفه نسفاً، ومن إلهامه الصبر ما يجدد لتمزيق القلوب أحسن ما به ترفى. وبكتاب الله تعالى وبسنة رسوله صلى الله عليه وسلم عندنا حسن اقتداء يضرب عن كل رثاء صفحاً، وما كنا مع ذلك- والمنة لله- نصغي لمن يؤنب ويؤبن أذناً، ولا نعيرها لمن يلحا إذ الولد الذاهب في رضوان الله تعالى سالكاً طريقاً لا عوج بها ولا أمتا، وانتقل ساراً باراً صالحاً صالحاً وما هكذا كل الموتى نعياً ونعتا، ولئن كان نفعنا في الدنيا فها نحن بالصدقات والترحم عليه ننفعه، وإذا كان الولد عمل أبيه وقد رفع الله تعالى روح ولدنا إلى أعلى عليين تحقق أنه العمل الصالح يرفعه؛ وفيما نحن بصدده من اشتغال بالحروب، ما يهون ما يهول من الكروب؛ وفيما نحن عاكفون عليه من مكافحات الأعداء ما بين المرء وقلبه يحول، بل عن تخيل أسف في الخاطر يجول:
إذا اعتاد الفتى خوض المنايا ** فأهون ما تمر به الوحول!

فلنا بحمد الله تعالى ذرية درية، وعقود والشكر لله كلها درية.
إذا سيد منهم خلا قام سيد ** قؤول لما قال الكرام فعول!

ما منهم إلا من نظر سعده ومن سعده ينتظر، ومن يحسن أن يكون المبتدأ وأن يسد حاله بكفالته وكفايته مسد الخبر، (والشمس طالعة إن غيب القمر)؛ لا سيما من الذي يراد هو صلاحه أعرف، ومن إذا قيل بناء ملك هذا عليه قد وهى قيل هذا خير منه من أعلى بناء سعد أشرف. وعلى كل حال لا عدم إحسان العمل الذي يتنوع في بره، ويعاجل قضاء الحقوق فيساعف مرسومه في توصيله طاعة بحره وبره؛ وله الشكر على مساهمة المولى في الفرح والترح، ومشاركته في الهناء إذا سنح وفي الدمع إذا سفح؛ وما مقل مكارم المولى من يعزب ذلك عن علمها، ولا يعزى إلى غير حكمها وحلمها؛ وهو- أعزه الله- ذو التجارب التي مخضت له من هذه وهذه الزبدة، وعرضت عليه منها الهضبة الوهدة. والرغبة إلى الله تعالى أن يجعل تلك المصيبة للرزايا خاتمة، كما لم يجعلها للظهور قاصمة؛ وأن يجعلها بعد حمل هذا الهم وفصاله على عليه فاطمة، وأن يحبب إلينا كل ما يلهي عن الأموال والأولاد، من غزو وجهاد، وأن يخولنا فليس يحد لدينا على مفقود تأدباً مع الله عز وجل غير السيوف فإنها تعرف بالحداد، وأن لا تقصف رماحنا إلا في فود أو فؤاد، ولا تحول سروج خيلنا إلا من ظهر جواد في السرايا إلى ظهر جواد، وأن لا تشق لدينا إلا أكباد الناد، ولا تجز غير شعور ملوك التتار تتوج بها رؤوس الرماح وصعد بها على قمم الصعاد؛ والله تعالى يشكر للمولى سعي مراثيه التي لولا لطف الله بما صبرنا به لأقامت الجنائز، واستخفت النحائز، ولأهوت بالنفوس في استعمال الجائز من الأسف وغير الجائز، ولا شغل الله لب المولى بفادحه، ولا خاطره بسانحة من الحزن أو بارحه، ولا أسمعه لغير المسرات من هواتف الإبهاج صادحه، إن شاء الله تعالى.
الأسلوب الرابع أن تفتتح المكاتبة بلفظ: أعز الله تعالى أنصار المقام الشريف العالي:
وعليها كان الأمر في أول الدولة التركية، وهذه نسخة كتاب من ذلك، كتب بها عن الملك المظفر قطز- وصاحب اليمن يومئذ المنصور- بالبشارة بهزيمة التتار. وأظنها من إنشاء القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر، وهي: أعز الله تعالى أنصار المقر الشريف، العالي، المولوي، السلطاني، الملكي، المنصوري، وأعلى مناره، وضاعف اقتداره؛ تعلمه أنه لما كان النصف من شهر رجب الفرد، فتح الله تعالى بنصر المسلمين على أعداء الدين:
من كل من لولا تسعر بأسه ** لاخضر جوداً في يديه الأسمر

فصدرت هذه التهنئة إليه ** راوية للصدق عن اليوم المحجل الأغر

يوم غدا بالنقع فيه يهتدي ** من ضل فيه بأنجم المران

ففي أذن الدهر من وقعه صمم، وفي عرنين البدر من نقعه شمم؛ ترفعه رواة الأسل عن الأسنة، ويسنده مجر العوالي عن مجر الأعنة، أما النصر الذي شهد الضرب بصحته، والطعن بنصيحته، فهو أن التتر خذلهم الله تعالى استطالوا على الأيام، وخاضوا بلاد الشام، واستنجدوا بقبائلهم على الإسلام:
سعى الطمع المرادي بهم لحتوفهم ** ومن يمسكن ذيل المطامع يعطب

فاعتاضوا عن الصحة بالمرض، وعن الجوهر بالعرض؛ وقد أرخت الغفلة رمامهم، وقاد الشيطان خطامهم؛ وعاد يكدهم في نحورهم: ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيراً وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قوياً عزيزاً.
راموا الأمور فمذ لاحت عواقبها ** بضد ما أملوا في الورد والصدر

ظلوا حيارى وكأس الموت دائرة ** عليهم شرعاً في الورد والصدر!

وأضعف الرعب أيديهم فطعنهم ** بالسمهرية مثل الوخز بالإبر!

لا جرم أنهم لسن الندم قارعون، وعلى مقابلة إحساننا بالإساءة نادمون.
تدعروا بدروع البغي سابغة ** والمرء يحصد من دنياه ما زرعا!

فأقلعت بهم طرائق الضلال، وسارت مراكب أمانيهم في بحار الآمال؛ فتلك آمال خائبة، ومراكب للظنون عاطبة؛ وأقلعوا في البحر بمراكبه، والبر بمواكبه؛ وساروا وللشيطان فيهم وساوس، تغرهم أمنية الظنون الحوادس؛ فم وسوس الشيطان كفراً إلا وأحرقه الإيمان بكوكب....... هذا وعساكر المسلمين مستوطنة في مواطنا، جاذية عقبانها في وكور ظباها، رابضة آسادها في غيل أقناها، وما تزلزل لمؤمن قدم إلا وقدم إيمانه راسخة، ولا ثبتت لأحد حجة إلا وكانت الجمعة لها ناسخة؛ ولا عقدت برجمة ناقوس إلى وحلها الأذان، ولا نطق كتاب إلا وأخرسه القرآن؛ ولم تزل أخبار المسلمين تنتقل إلى الكفار، وأخبار الكفار تنتقل إلى المسلمين إلى أن خلط الصباح فضته بذهب الأصيل، وصار اليوم كأمس، ونسخت آية الليل بسورة الشمس؛ واكتحلت الأعين بمرود السبات، وخاف كل من المسلمين إصدار البيات.
ينام بإحدى مقلتيه ويتقي ** بأخرى الأعادي فهو يقظان نائم!

إلى أن تراءت العين بالعين، واضطرم نار الحرب بين الفريقين؛ فلم تر إلا ضرباً يجعل البرق نضواً، ويترك في بطن كل من المشركين شلواً؛ حتى صارت المفاوز دلاصاً، ومراتع الظبا للظبا عراصا؛ واقتنصت آساد المسلمين المشركين اقتناصاً، ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها ولم يجدوا عنها مناصاً؛ فلا روضة إلا درع ولا جدول إلا حسام، ولا غمامة إلا نقع ولا وبل إلا سهام؛ ولا مدام إلا دماء ولا نغم إلا صهيل، ولا معربد إلا قاتل ولا سكران إلا قتيل؛ حتى صار كافور الدين شقيقاً، وتلون الحصباء من الدماء عقيقاً؛ وضرب النقع في السماء طريقاً، وازدحمت الجنائب في الفضاء فجعلته مضيقاً؛ وقتل من المشركين كل جبار عنيد، ذلك بما قدمت أيديهم {وما ربك بظلام للعبيد}.
قلت: وهذه النسخة تلفقتها من أفواه بعض الناس، ذكر أنه وجدها في بعض المجاميع فحفظها منه، وهي في غاية من البلاغة، إلا أنها لا تخلو من تغيير وقع في بعض أماكنها، ولعله من الناقل لها، من حيث أنه ليس من أهل هذه الصناعة. ولم يسعني ترك إيرادها لما فيها من المحاسن، ولانفرادها بأسلوب من الأساليب التي بها إلى ملوك اليمن؛ فأوردتها على ما هي عليه، وجزى الله خيراً من ظفر لها بنسخة صحيحة فقابلها عليها وصححها وأصلح ما فيها.
الأسلوب الخامس: أن تفتتح المكاتبة بلفظ أعز الله تعالى أنصار المقام العالي:
وهو ما جرى عليه في التثقيف: أن تفتتح المكاتبة بلفظ أعز الله تعالى أنصار المقام العالي.
صدره على ما ذكره في التثقيف: أعز الله تعالى أنصار المقام العالي، السلطاني، الملكي، الفلاني، الفلاني، مثل أن يقال: الأفضل السيفي؛ ثم الدعاء؛ ثم يقال: أصدرناها وتبدي لعلمه الكريم كذا وكذا. قال في التثقيف: والمكاتبة إليه في قطع النصف والطلب منه، والقصد من المقام العالي وخاتمة الكتاب بالدعاء، والعلامة أخوه وتعريفه: صاحب اليمن. وفي دستور المقر الشهابي بن فضل الله أن خطابه يكون بالمقام العالي.
وهذه نسخة كتاب إليه، ذكر المقر الشهابي بن فضل الله في تذكرته أنه أنشأها جواباً عن هديته ولم يكتب بها إليه، وهو يومئذ الملك المجاهد سيف الدين علي بن داود.
أعز الله تعالى أنصار المقام العالي، ولا زالت مكارمه تخص من كل نوع بأحسنه، وتتحف بأزيده وأزينه، وتجلب كل غريب الديار من وطنه، وتمنح من السوابق بما تمتد المجرة يف رسنه، ومن المحاسن بما يملي على علي أوصاف حسنه، ويعرب عن الفرس والسيف والرمح بأطيب لحن في نصبه وجره ورفعه.
صدرت إلى المقام العالي أعز الله جانبه تصل بوداده، وتصف حباً علق بفؤاده؛ وتعرض ببرحاء يمنية أحلام الكرى طمعاً أن يرى طيفه في رقاده. وتبدي أن كتابه الكريم ورد جالباً لدر مننه، جالباً لليمن من يمنه، نافحاً بالطيب من عدنه، ناقداً من قوة السيوف بما لا يدعيه ابن ذي يزنه؛ فتؤمل ما حوى من كرم لا يجارى، ونعم تملأ البر براً والبحار بحارا؛ وأبدع في الهبة التي قدر مهديها، وقدر فيها من التحف ما لا يوجد إلا فيها؛ وجاء بكل ما يستعين به المرابط، وتهتز به الخزائن والمرابط؛ وتفتخر من الرماح بكل معتدل قاسط، وبما يردي العدا من أسنته بكل نجم هابط. كم لها من فعل جميل لا يشارك، وكم قال طعين: إن لها كعباً مدوراً وما قدر الطاعن أن يقول إلا أنها كعب مبارك. ومن السيوف بما لا يطبع النهر في نصله، ولا يطمع البرق في مناضلة مثله، ولا يطمح الهلال أن يستقيم على شكله؛ كم أخمدت أنفاساً ولها التهاب، ولمعت من نواحي الغمود كما نصلت أنمل من خضاب. ومن الخيل بما ترقص في أعنتها، وتفتخر على البدور بأنها تدوس على أهلتها: من كل أشهب يحسن ابتداراً، ويحسب قمراً قد تكمل إبداراً، ويطلع في كل ناحية نهاراً جهاراً. وأدهم قد غصب الظلام، واستدارت غرته فأسفر وجهه تحت برقع من لثام. وأحوى أخضر الجلدة من بيت للعرب، قد حوى من الروض ما سلب. وكميت ينضو النقع وهو سبوق، وتقدم في ميادينه فجاء مضمخاً بالخلوق. وأشقر قد كشف البرق عذاره، وأطار الركض منه شراره؛ ومعها كل فيل كأنه غمام تبدى، أو ملك مفدى، بخرطوم يرتد كالصولجان، ويمتد كالأفعوان، ويهول منظره كأنه من تمام الخلق بنيان، ويتحرك فتحسبه كم راقصة تشير به إلى الندمان؛ تقشعر منها الجلود، وتقتل نفسها بنيران الحقد محافظة على عهود الهنود؛ كم أحسنت بخراطيمها لها من صدورها الضيقة مخرجاً، وأضاءت فروجها بين أنيابها طرة صبح تحت أذيال الدجى؛ وزرافة، لها إنافة، كأنها شفق بينه نجوم، أو بروق تكللت بقطر الغيوم؛ لها في المدخل على القلوب حذاقة، وولوج من باب ودخول من طاقة. وحمارة وحشية جاءت بوصف الربيع في اعتدل الليل والنهار، وجمعت الهالات والأقمار، ودلت على أصل كريم تفتحت في فروعه الأزهار، وحكت بخطوطها الدوح مما تراك ظله فأظلم وانفرج فأنار. ونمر يؤلف على نفاره، ويسبح ليله في أنهار نهاره؛ يتدفق في مثل أنبوب القناة المضطمر، ويصدق من شبه ركود الربا على الرمال بقطعة من جلدة النمر. وقط الزباد الذي لا تحكيه الأسود في صورها، ولا تسمح غزلان المسك بما يخزنه من عرفه الطيب في سررها؛ كم تنقل في بيوت وطابت موطنا، ومشى من دار أصحابه فقالوا: ربنا عمل لنا قطنا؛ وكذلك من الطيب، ما يطيب، وما يزور بنفحه الحبيب؛ قد بعث أكبره، وأفاد أكثره، واستخدم المتنعمون به صندله وكافوره وعنبره. وغير هذه الأنواع مما جاد بإرساله، وأتى من كل بديع به وبأمثاله؛ فقوبلت بالقبول هذه التحف، وأكرمت إكرام من لها عرف وبها اعترف؛ وحمد سحابه الذي تسرعت مواطره، وبعثت من طرفها بالروض وما تنوء عنه أزاهره، وشرعت بما اتصلت بمصر أوائله واليمن أواخره؛ والله تعالى يشكر هممه التي تعالت، وشيمه العلوية التي لأجلها المحامد قد توالت. وقد جهزنا له من التحف النمعم بها ما أمكن تعجيل حمله، وجرت عوائد ملوك الأقاليم بالتشريف من خزائننا العالية بمثله؛ وحملنا رسله من السلام ما تعبق به الفجاج، وتعذب به البحار وهي ملح أجاج. والمراد منه أن يواصل بمكاتباته التي تتناوب الصدور، وتنوب عن لمحة البدور، وتؤوب بما تقدم به من السرور؛ والله تعالى يديم لسطانه التأييد، ولملكه التأبيد، ولاقتداره ما به تعز تعز وتميد زبيد. إن شاء الله تعالى.
فائدة- المكاتبة إلى صحاب اليمن عن ولي العهد بالسلطنة كالمكاتبة إليه عن السلطان نفسه في جميع المكاتبة على السواء.
وعلى ذلك كتب القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر عن الأشرف خليل ابن قلاوون قرين كتاب أبيه المنصور قلاوون إلى صاحب اليمن، بالبشرى بفتح طرابلس.
وهذه نسخته:
أعز الله تعالى نصرة المقام! وأوفد عليه كل بشرى أحسن من أختها، وكل تهنئة لا يجليها إلا هو لوقتها؛ وكل مبهجة يعجز البنان والبيان عن ثبتها ونعتها، وتتبلج فتود الدرر والدراري لو رقت هذه إلى ترقيها وسمت هذه إلى سمتها. وصبحه منها بكل هاتفة أسمع من هواتف الحمائم، وبكل عارفة أسرع من عوارف الزهر عند عزائم النسائم؛ وبكل عاطفة أعنة الإتحاف بالإيجاف الذي شكرت الصفاح منه أعظم قادر والصحائف أكرم قادم؛ والغزو الذي لا يخص تهامة ببشراه بل جميع النجود والتهائم، وثوي الصوارم والصرائم، وأولي القوى والقوائم، وكل ثغر عن ابتهاج الإسلام باسم، وكل بر بر بتوصيل ما ترتب عليه من ملاحم؛ وكل بحر عذب يمون كل غاز لا يحبس عن جهاد الكفار في عقر الدار الشكائم، وكل بحر ملح كم تغيظ من محاورة أخيه لأهل الشرك ومشاركتهم فيه فراح وموجه المتلاطم.
المملوك يخدم خدمة يقتفي فيها أثر والده، ويجري في تجميلها على أجمل عوائده، ويستفتح فيها استفتاحاً تحف به من هنا ومن هنا تحف محامده، ويصف ولاء قد جعله الله أجمل عقوده وأكمل عقائده؛ ويشفعها بإخلاص قد جعله ميله أحسن وسائله وقلبه أزين وسائده؛ ويطلع علمه على أن من سجايا المتعرضين إلى الإعلان بشكر الله تعالى في كل ما يعرض للمسلمين من نصر، ويفترض لهم من أجر غزو كم قعد عنه ملك فيما مضى من عصر؛ أن يقدروا هذه النعمة حق قدرها من التحدث بنعمتها، والتنبيه بسماع نغمتها، وإرسال أعنة الأقلام بها في ميادين الطروس، وإدارة حرباء وصف حر حرب؟ إلى مواجهة خير الشموس.
ولما كانت غزوات مولانا السلطان ملك البسيطة الوالد خلد الله سلطانه قد أصبحت ذكرت للبشر، ومواقفه للنصر كم جاءت هي والقدر على قدر؛ وقد صارت سيرها وسيرها هذه شدو في الأسمار، وهذه جادة تستطيب منها حسن الحدو السفار؛ فكم قاتلت من يليها من الكفار، وكم جعلت من يواليها وهو منصورها منصوراً بالمهاجرين والأنصار.
ولما أذل الله ببأسها طوائف التتار في أقاصي بلاد العجم، وجعل حظ قلوبهم الوجع من الخوف ونصيب وجوههم الوجهم؛ وأخلى الله من نسورهم الأوكار ومن أسودهم الأجم، وقصرت بهم هممهم حتى صاروا يخافون الصبح إذا هجم، والظن إذا رجم؛ وصارت رؤية الدماء تفزعهم فلو احتاج أحدهم لتنقيص دم لمرض لأجنح من خوفه وما احتجم. وأباد الله الأرمن فحل بالنبيل منهم الويل، وما شمر أحد من الجنود الإسلامية عن ساعد إلا وشمر هو من الذل الذيل؛ ولا أثارت الجياد من الخيل عثيراً منعقداً إلى وظنوه مساء قد أقبل أو ليل، وانتهت نوبة القتل بهم والإسار إلى التكفور ليفون ملك الأرمن الذي كان يحمي سرحهم، ويمرد صرحهم، ويستنطق هتف التتار ويسترجع صدحهم؛ وتعتز طرابلس الشام بأنه خال ابرنسها الكافر، ولسان شورته السفر ووجه تدبيره السافر. وطالما غر وأغرى، وأجر وأجرى وضر وأضرى؛ فلما توكل مولانا اسلطان وعزم فتوكل، وتحقق أن البلاء به قد نزل وما تشكك أن ذلك في ذهن القدر قد تصور وتشكل؛ وأن يومه في الفتك سيكون أعظم من أمنيته، وأعظم منهما معاداة غده، وأن نصر الله ين يخلفه صادق وعده؛ أكل يده ندامة على ما فرط في جنب الله وساق الحتف لنفسه بيده، فعمر الله بروحه الخبيثة الدرك الأسفل من النار، وسقاه الحتف كأساً بعد كأس لم يكن لهما غير الملك من خمار. وكانت طرابلس هي ضالة الإسلام الشريدة، وإحدى ابقاته من الأعوام العديدة؛ وكلما مرت شمخت بأنفها، وتأنقت في تحسين منازه منازهها وتزيين ريحانها وعصفها، ومرت وهي لا تغازل ملكاً بطرفها، وكلما تقادم عهدها تكثرت بالأفواج والأمواج من بين يديها ومن خلفها. إذ البحر لها جلباب والسحاب لها خمار، وليس لها من البر إلا بمقدار ساحة الباب من الدار؛ كأنها في سيف ذلك البحر جبل قد انحط، أو ميل استواء قد خرج عن الخط، وما قصد أحد شطها بنكاية إلا شط واشتط.
قدر الله تعالى أن صرف مولانا السلطان إليها العنان، وسبق جيشه إليها كل خبر وليس الخبر كالعيان، وجاءها بنفسه النفيسة والسعادة قد حرسته عيونها وتلك المخاوف كلها أمان، وقد اتخذ من إقدامه عليها خير حبائل ومن مفاجأته لها أمد عنان؛ وفي خدمته جنود لا تستبعد مفازه، وكم راحت وغدت وفي نفسها للأعداء حزازه؛ فامتطوا بخيولهم من جبال لبنان تيجاناً لها صاغتها الثلوج، ومعارج لا مراف بها غير الرياح الهوج؛ وانحطت تلك الجيوش من تلك الجنادل، انحطاط الأجادل؛ واندفعوا في تلك الأوعار، اندفاع الأوعال؛ ولم يحفل أحد منهم بسرب لاصق، ولا جبل شاهق؛ فقال: أهذا منخفض أو عال، وشرعوا في التحصيل لما يوهي ذلك التحصين، وابتنى كل سوراً أمام أسوارها منن التدبير الحسن والرأي الرصين؛ فما لبثوا إلا بمقدار ما قيل لهم دونكم والاختصاب، ونقل المجانيق على الخيل وعلى الرقاب؛ حتى جورها بأسرع من جر النفس، وأجروها على الأرض سفائن وكم قالوا: السفينة لا تجري على يبس؛ وفي الحال نقلت إليها فرأوا من متوقلها من يمشي بها على رجلين ومنهم من يمشي على أربع، ووجهت سهامها وجوهها إلى منافذها فما شوهدت منها عين إلا وكان قدامها منها إصبع؛ وألقيت العداوة بين الحجارة من المجانيق والحجارة من الأسوار، فكم ثقبت ونقبت عن فلذة كبدها، عن.......... وأوقدت نيران المكايد ثم فكم حولها من صافن ومن صافر، وكم رمتهم بشرر كالقصر فوقع الحافر كما يقال على الحافر؛ وما برحت سوق أهل الإيمان في نفاق، على أهل النفاق، وأكابرهم تساق، أرواحهم الخبيثة إلى الساق.
وكان أهل عكا قد أنجدوهم من البحر بكل بر، ورموا الإسلام بكل شرر وبكل شر؛ فصار السهم الذي يخرج بها لا يخرج إلا مقترناً بسهام، وشرفات ذلك الثغر كالثنايا ولكنها لكثرة من بها لا تفتر عن ابتسام.
وما زالت جنود الإسلام كذلك، ومولانا السلطان لا ترى جماعة مقدمة ولا متقدمة إلا وهو يرى بين أولئك. واستمر ذلك من مستهل ربيع الأول إلى رابع ربيع الآخر، فزحف إليها في بكرة ذلك النهار وهو الثلاثاء زحفاً يقتحم كل هضبة ووهدة، وكل صلبة وصلدة؛ حتى أنجز الله وعده، وفتحها المسلمون مجازاً وفي الحقيقة فتحها وحده؛ وطلعت سناجق الإسلام الصفر على أسوارها، ودخلت عليهم من أقطارها، وجاست الكسابة إلى ديارها؛ فاحتازها مولانا السلطان لنفسه ملكاً، وما كان يكون له في فتحها شريك وقد نفى عنها شركاً؛ وكلما قيل هذه طرابلس فتحت قال النصر لمن قتل فيها من النجد الواصلة: وأكثر عكا وأهل عكا؛ وأعاد الله تعالى بها قوة الكفر أنكاثا، فكان أخذها من مائة سنة وثمانين سنة في يوم ثلاثا، واستردت في يوم الثلاثا.
ولما عمت هذه البشائر، وكل بها مولانا السلطان إلى من يستجلي حسان هذه العرائس، ويستحلي نفيس هذه النفائس.
سير مولانا السلطان إلى المولى كل بشرى تقعقع بها البريد، لتتلى بأمر على كل من ألقى السمع وهو شهيد؛ وكما عم السرور بذلك كل قريب قصد أن يعم الهناء كل بعيد.
وأصدر المملوك هذه الخدمة يتجرب بين يديه نجواها، ويتوثب بعد هذه الفاتحة المباركة لكل سانحة يحسن لدى المولى مستقرها ومثواها؛ لا برح المقام العالي يستبشره لكماة الإسلام بكل فضل وبكل نعمى، ويفرح بسرح الكفر إذا انتهك وبسفح الملك إذا يحمى، وبسمع الشرك إذا يصم وبقلبه إذا يصمى؛ والله الموفق.
الجملة الثانية في المكاتبات إلى عرب البحرين ومن انضاف إليهم:
قد تقدم في الكلام على المسالك والممالك في المقالة الثانية أن بلاد البحرين لم تزل بيد العرب، وأنها صارت الآن بيد بني عقيل- بضم العين- من بني عامر بن صعصعة، من هوازن، من قيس عيلان، من العدنانية. قال في التعريف: ومنهم قوم يصلون إلى باب السلطان وصول التجار، يجلبون جياد الخيل وكرام المهاري واللؤلؤ وأمتعة من أمتعة العراق والهند، ويرجعون بأنواع الحباء الإنعام والقماش والسكر وغير ذلك؛ ويكتب لهم بالمسامحة فيردون ويصدرون. قال: وبلادهم بالد زرع وضرع، وبر وبحر، ولهم متاجر مربحة، وواصلهم إلى الهند لا ينقطع، وبلادهم ما بين العراق والحجاز، ولهم قصور مبنية، وآطام علية، وريف غير متسع، إلى ما لهم من النعم والماشية، والحاشية والغاشية؛ إلا أن الكلمة قد صارت بينهم شتى، والجماعة متفرقة. وقد سبق الكلام على بلادهم مستوفى في المقالة الثانية في الكلام على المسالك والممالك.
قال في التثقيف: ورسم المكاتبة إلى كبرائهم السامي بالياء. والعلامة الشريفة أخوه ثم ما دون ذلك لمن دونهم.
واعلم أنه في التثقيف: قد جمع بين عرب البحرين وعرب البصرة وما والى ذلك، وجعل المكاتبة إليهم على ثلاث مراتب.
المرتبة الأولى- من يكتب إليه السامي بالياء والعلامة الاسم، وذكر أن بها يكاتب أميرهم، وسماه حينئذ صدقة بن إبراهيم بن أبي دلف، وأن تعريف فلان بن فلان. وذكر في رتبته في المكاتبة يومئذ محمد بن مانع، وأخوه حسين بن مانع، وعلي بن منصور.
المرتبة الثانية- من يكتب إليه السامي بغير ياء والعلامة الاسم. وذكر منهم بدران بن مانع- رومي بن أبي دلف- زين بن قاسم- يوسف بن قاسم، سعيد بن معدي- راشد بن مانع- عيسى بن عرفه- ظالم من مجاشع- إسماعيل بن اصواري- كلبي بن ماجد بن بدران- مانع بن علي- مانع بن بدران.
المرتبة الثالثة- من يكتب إليه مجلس الأمير والعلامة الاسم. وعد منهم جماعة، وهم عظيم بن حسن بن مانع- موسى بن أبي الحسن- سعد بن مغامس- زيد بن مانع- هلال بن يحيى- معمر بن مانع- محمد بن خليفة.
قلت: وحاصل ما ذكره في التعريف والتثقيف أن جملة المكاتبة إليهم لا تجاوز المراتب الثلاث المذكورة، والكاتب يستخبر أخبارهم في المقدار، وينزل كل واحد منهم على قدر مرتبته من ذلك كما في الأسماء المتقدمة الذكر.